فصل: تفسير الآيات (208- 210):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (208- 210):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)}
لما ذكر الله سبحانه أن الناس ينقسمون إلى ثلاث طوائف: مؤمنين، وكافرين، ومنافقين، أمرهم بعد ذلك بالكون على ملة واحدة. وإنما أطلق على الثلاث الطوائف لفظ الإيمان؛ لأن أهل الكتاب مؤمنون بنبيهم، وكتابهم، والمنافق مؤمن بلسانه، وإن كان غير مؤمن بقلبه. و{السلم} بفتح السين وكسرها قال الكسائي: ومعناهما واحد، وكذا عند البصريين، وهما جميعاً يقعان للإسلام، والمسالمة.
وقال أبو عمرو بن العلاء: إنه بالفتح للمسالمة، وبالكسر للإسلام. وأنكر المبرد هذه التفرقة.
وقال الجوهري: {السلم} بفتح السين: الصلح، وتكسر، ويذكر ويؤنث، وأصله من الاستسلام، والانقياد.
ورجح الطبري أنه هنا بمعنى الإسلام، ومنه قول الشاعر الكندي:
دَعَوْتُ عَشِيرَتِي للِسِّلم لَمّا ** رَأيْتُهمُ تَوَلَّوا مُدْبِرين

أي: إلى الإسلام. وقرأ الأعمش: {السَّلمَ} بفتح السين، واللام.
وقد حكى البصريون في سَلْم، وسِلْم، وسلم أنها بمعنى واحد: {وكافة} حال من {السلم} أو من ضمير المؤمنين، فمعناه على الأوّل: لا يخرج منكم أحد، وعلى الثاني: لا يخرج من أنواع السلم شيء بل ادخلوا فيها جميعاً. أي: في خصال الإسلام، وهو مشتق من قولهم كففت أي: منعت، أي: لا يمتنع منكم أحد من الدخول في الإسلام، والكفّ: المنع، والمراد به هنا: الجميع {ادخلوا فِي السلم كَافَّةً} أي: جميعاً. وقوله: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان} أي: لا تسلكوا الطريق التي يدعوكم إليه الشيطان، وقد تقدّم الكلام على خطوات.
قوله: {زَلَلْتُمْ} أي: تنحيتم عن طريق الاستقامة، وأصل الزلل في القدم، ثم استعمل في الاعتقادات، والآراء، وغير ذلك، يقال زلّ يَزِلُّ زلاً، وزللاً، وزلولاً: أي: دحضت قدمه. وقرئ: {زَلِلْتُمْ} بكسر اللام، وهما لغتان، والمعنى: فإن ضللتم، وعرّجتم عن الحق: {مّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ البينات} أي: الحجج الواضحة، والبراهين الصحيحة، أن الدخول في الإسلام هو الحق {فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ} غالب لا يعجزه الانتقام منكم {حَكِيمٌ} لا ينتقم إلا بحق. قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ} أي: ينتظرون، يقال نظرته وانتظرته بمعنى، والمراد هل ينتظر التاركون للدخول في السلم، والظُّللَ جمع ظُلَّة، وهي ما يظلك، وقرأ قتادة، ويزيد بن القعقاع: {في ظلال} وقرأ يزيد أيضاً {والملئكة} بالجرّ عطفاً على الغمام، أو على ظلل. قال الأخفش: {والملئكة} الخفض بمعنى: وفي الملائكة؛ قال: والرفع أجود.
وقال الزجاج: التقدير في ظلل من الغمام، ومن الملائكة، والمعنى: هل ينتظرون إلا أن يأتيهم الله بما وعدهم من الحساب والعذاب في ظلل من الغمام، والملائكة. قال الأخفش: وقد يحتمل أن يكون معنى الإتيان راجعاً إلى الجزاء، فسمي الجزاء إتياناً كما سمي التخويف، والتعذيب في قصة ثمود إتياناً، فقال: {فَأَتَى الله بنيانهم مّنَ القواعد}
[النحل: 26] وقال في قصة النضير {فأتاهم الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ} [الحشر: 2] وإنما احتمل الإتيان هذا؛ لأن أصله عند أهل اللغة القصد إلى الشيء، فمعنى الآية: هل ينظرون إلا أن يظهر الله فعلاً من الأفعال مع خلق من خلقه يقصد إلى محاربتهم؟ وقيل إن المعنى: يأتيهم أمر الله، وحكمه، وقيل: إن قوله: {فِي ظُلَلٍ} بمعنى يظلل، وقيل: المعنى: يأتيهم ببأسه في ظلل. والغمام: السحاب الرقيق الأبيض، سمي بذلك؛ لأنه يغم. أي: يستر. ووجه إتيان العذاب في الغمام على تقدير أن ذلك هو المراد ما في مجيء الخوف من محل الأمن من الفظاعة، وعظم الموقع؛ لأن الغمام مظنة الرحمة لا مظنة العذاب.
وقوله: {وَقُضِىَ الأمر} عطف على {يأتيهم} داخل في حيز الانتظار، وإنما عدل إلى صيغة الماضي دلالة على تحققه؛ فكأنه قد كان، أو جملة مستأنفة جيء بها للدلالة على أن مضمونها واقع لا محالة، أي: وفرغ من الأمر الذي هو إهلاكهم. وقرأ معاذ بن جبل: {وقضاءَ الأمر} بالمصدر عطفاً على الملائكة. وقرأ يحيى بن يَعْمُر: {وقضى الأمور} بالجمع. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: {تُرْجَعُ الأمور} على بناء الفعل للفاعل، وقرأ الباقون على البناء للمفعول.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَافَّةً} قال: يعني مؤمني أهل الكتاب، فإنهم كانوا مع الإيمان بالله مستمسكين ببعض أمر التوراة، والشرائع التي أنزلت فيهم، يقول: ادخلوا في شرائع دين محمد، ولا تَدَعُوا منها شيئاً، وحسبكم الإيمان بالتوراة، وما فيها.
وأخرج ابن جرير، عن عكرمة: أن هذه الآية نزلت في ثعلبة، وعبد الله بن سلام، وابن يامين، وأسد، وأسيد ابني كعب، وسعيد بن عمرو وقيس بن زيد، كلهم من يهود قالوا: يا رسول الله يوم السبت يوم كنا نعظمه فدعنا فلنُسْبِت فيه، وإن التوراة كتاب الله، فلنقم بها الليل، فنزلت: {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَافَّةً}.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: {السلم} الطاعة لله، و{كافة} يقول: جميعاً.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه قال: السلم: الإسلام، والزلل: ترك الإسلام.
وأخرج ابن جرير، عن السدي قال: {فَإِن زَلَلْتُمْ مّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ البينات} قال: فإن ظللتم من بعد ما جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجمع الله الأوّلين، والآخرين لميقات يوم معلوم قياماً شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون فصل القضاء، وينزل الله في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي».
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة، عن ابن عمر في هذه الآية قال: يهبط حين يهبط، وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب، منها النور، والظلمة، والماء، فيصوت الماء في تلك الظلمة صوتاً تنخلع له القلوب.
وأخرج أبو يعلى، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في هذه الآية قال: يأتي الله يوم القيامة في ظلل من السحاب قد قُطِّعَت طاقات.
وأخرج ابن جرير، والديلمي عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن من الغمام طاقات يأتي الله فيها محفوفات بالملائكة» وذلك قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمام}.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن عكرمة: {فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمام} قال: طاقات، والملائكة حوله.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة في الآية قال: يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وتأتيهم الملائكة عند الموت.
وأخرج عن عكرمة في قوله: {وَقُضِىَ الأمر} يقول: قامت الساعة.

.تفسير الآيات (211- 213):

{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)}
المأمور بالسؤال لبني إسرائيل هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يكون هو كل فرد من السائلين، وهو سؤال تقريع وتوبيخ. و{كَمْ} في محل نصب بالفعل المذكور بعدها على أنها مفعول بآتي، ويجوز أن ينتصب بفعل مقدّر دلّ عليه المذكور. أي: كم آتينا آتيناهم، وقُدِّر متأخراً؛ لأن لها صدر الكلام، وهي إما استفهامية للتقرير، أو خبرية للتكثير. و{مّنْ ءَايَةٍ} في موضع نصب على التمييز، وهي البراهين التي جاء بها أنبياؤهم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: المراد بذلك الآيات التي جاء بها موسى، وهي التسع. والمراد بالنعمة هنا: ما جاءهم من الآيات.
وقال ابن جرير الطبري: النعمة هنا الإسلام، والظاهر دخول كل نعمة أنعم الله بها على عبد من عباده كائناً من كان، فوقع منه التبديل لها، وعدم القيام بشكرها، ولا ينافي ذلك كون السياق في بني إسرائيل، أو كونهم السبب في النزول لما تقرر من أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وفي قوله: {فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} من الترهيب، والتخويف ما لا يقادر قدره.
قوله: {زُيّنَ} مبني للمجهول، والمُزَيِّن: هو الشيطان، أو الأنفس المجبولة على حبّ العاجلة. والمراد بالذين كفروا: رؤساء قريش، أو كل كافر. وقرأ مجاهد، وحميد بن قيس: {زين} على البناء للمعلوم. قال النحاس: وهي قراءة شاذة؛ لأنه لم يتقدّم للفاعل ذكر. وقرأ ابن أبي عبلة: {زينت} وإنما خص الذين كفروا بالذكر مع كون الدنيا مزينة للمسلم، والكافر كما وصف سبحانه بأنه جعل ما على الأرض زينة لها ليبلو الخلق أيهم أحسن عملاً؛ لأن الكافر افتتن بهذا التزيين، وأعرض عن الآخرة، والمسلم لم يفتتن به؛ بل أقبل على الآخرة.
قوله: {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين ءامَنُواْ} هذه الجملة في محل نصب على الحال. أي: والحال أن أولئك الكفار يسخرون من الذين آمنوا لكونهم فقراء لا حظّ لهم من الدنيا كحظ رؤساء الكفر، وأساطين الضلال، وذلك: لأن عرض الدنيا عندهم هو الأمر الذي يكون من ناله سعيداً رابحاً، ومن حُرِمَه شقياً خاسراً.
وقد كان غالب المؤمنين إذ ذاك فقراء لاشتغالهم بالعبادة، وأمر الآخرة، وعدم التفاتهم إلى الدنيا وزينتها.
وحكى الأخفش أنه يقال: سخرت منه، وسخرت به، وضحكت منه، وضحكت به، وهزأت منه، وهزأت به، والاسم السخرية، والسّخْري.
ولما وقع من الكفار ما وقع من السخرية بالمؤمنين ردّ الله عليهم بقوله: {والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة} والمراد بالفوقية هنا: العلوّ في الدرجة؛ لأنهم في الجنة، والكفار في النار، ويحتمل أن يراد بالفوق: المكان؛ لأن الجنة في السماء، والنار في أسفل سافلين، أو أن المؤمنين هم الغالبون في الدنيا كما وقع ذلك من ظهور الإسلام، وسقوط الكفر، وقتل أهله، وأسرهم، وتشريدهم، وضرب الجزية عليهم، ولا مانع من حمل الآية على جميع ذلك لولا التقييد بكونه في يوم القيامة.
قوله: {والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} يحتمل أن يكون فيه إشارة إلى أن الله سبحانه سيرزق المستضعفين من المؤمنين، ويوسع عليهم، ويجعل ما يعطيهم من الرزق بغير حساب، أي: بغير تقدير، ويحتمل أن المعنى: أن الله يوسع على بعض عباده في الرزق، كما وسع على أولئك الرؤساء من الكفار استدراجاً لهم، وليس في التوسعة دليل على أن من وسع عليه، فقد رضي عنه، ويحتمل أن يراد بغير حساب من المرزوقين كما قال سبحانه: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3].
قوله: {كَانَ الناس أُمَّةً واحدة} أي: كانوا على دين واحد فاختلفوا: {فَبَعَثَ الله النبيين} واختلف في الناس المذكورين في هذه الآية من هم؟ فقيل هم بنو آدم. حين أخرجهم الله نسماً من ظهر آدم وقيل: آدم وحده، وسمي ناساً؛ لأنه أصل النسل، وقيل: آدم وحواء. وقيل: القرون الأولى التي كانت بين آدم ونوح. وقيل: المراد: نوح ومَنْ في سفينته، وقيل: معنى: الآية كان الناس أمة واحدة كلهم كفار فبعث الله النبيين؛ وقيل المراد الإخبار عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم كانوا أمة واحدة في خلوّهم عن الشرائع، وجهلهم بالحقائق، لولا أن الله مَنَّ عليهم بإرسال الرسل، والأمة مأخوذة من قولهم أممت الشيء: أي: قصدته، أي: مقصدهم واحد غير مختلف. قوله: {فَبَعَثَ الله النبيين} قيل: جملتهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، والرسل منهم ثلثمائة وثلاثة عشر. وقوله: {مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ} بالنصب على الحال.
قوله: {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب} أي الجنس.
وقال ابن جرير الطبري: إن الألف واللام للعهد والمراد التوراة. وقوله: {لِيَحْكُمَ} مسند إلى الكتاب في قول الجمهور، وهو: مجاز مثل قوله تعالى: {هذا كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق} [الجاثية: 29] وقيل: إن المعنى ليحكم كل نبيّ بكتابه، وقيل: ليحكم الله، والضمير في قوله: {فِيهِ} الأولى راجع إلى {ما} في قوله: {فِيمَا اختلفوا فِيهِ} والضمير في قوله: {وَمَا اختلف فِيهِ} يحتمل أن يعود إلى الكتاب، ويحتمل أن يعود إلى المُنَزَّل عليه وهو محمد صلى الله عليه وسلم، قاله الزجاج؛ ويحتمل أن يعود إلى الحق، وقوله: {إِلاَّ الذين أُوتُوهُ} أي: أوتوا الكتاب، أو أوتوا الحق، أو أوتوا النبيّ: أي: أعطوا علمه. وقوله: {بَغْياً بَيْنَهُمْ} منتصب على أنه مفعول به، أي لم يختلفوا إلا للبغي: أي الحسد والحرص على الدنيا، وفي هذا تنبيه على السفه في فعلهم، والقبح الذي وقعوا فيه؛ لأنهم جعلوا نزول الكتاب سبباً في شدّة الخلاف.
وقوله: {فَهَدَى الله الذين ءامَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بإذنه} أي: فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الحق، وذلك بما بينه لهم في القرآن من اختلاف من كان قبلهم.
وقيل: معناه: فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للتصديق، بجميع الكتب بخلاف مَنْ قبلهم، فإن بعضهم كذَّب كتاب بعض؛ وقيل: إن الله هداهم إلى الحق من القبلة. وقيل: هداهم ليوم الجمعة. وقيل: هداهم لاعتقاد الحق في عيسى بعد أن كذّبته اليهود، وجعلته النصارى رباً، وقيل: المراد بالحق: الإسلام.
وقال الفراء: إن في الآية قلباً، وتقديره: فهدى الله الذين آمنوا بالحق لما اختلفوا فيه، واختاره ابن جرير، وضعَّفه ابن عطية. وقوله: {بِإِذْنِهِ}. قال الزجاج: معناه بعلمه. قال النحاس: وهذا غلط، والمعنى بأمره.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد في قوله: {سَلْ بَنِى إسراءيل} قال: هم اليهود {كَمْ آتيناهم مّنْ آيَةٍ بَيّنَةٍ} ما ذكر الله في القرآن، وما لم يذكر: {وَمَن يُبَدّلْ نِعْمَةَ الله} قال: يكفرها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: آتاهم الله آيات بينات: عصى موسى، ويده، وأقطعهم البحر، وأغرق عدوّهم، وهم ينظرون، وظلل من الغمام، وأنزل عليهم المنّ والسلوى. {وَمَن يُبَدّلْ نِعْمَةَ الله} يقول من يكفر بنعمة الله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن جريج في قوله: {زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا} قال: الكفار يبتغون الدنيا، ويطلبونها {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين ءامَنُواْ} في طلبهم الآخرة. قال ابن جريج: لا أحسبه إلا عن عكرمة. قال: قالوا: لو كان محمد نبياً لاتبعه ساداتنا، وأشرافنا، والله ما اتبعه إلا أهل الحاجة مثل ابن مسعود، وأصحابه.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله: {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين ءامَنُواْ} يقولون: ما هؤلاء على شيء، استهزاءً، وسخرياً {والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة} هنا كم التفاضل.
وأخرج عبد الرزاق، عن قتادة قال: فوقهم في الجنة.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن عطاء قال: سألت ابن عباس، عن هذه الآية: {والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} قال: تفسيرها ليس على الله رقيب، ولا من يحاسبه.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير قال: لا يحاسب الربّ.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو يعلى، والطبراني بسند صحيح، عن ابن عباس قال: {كان الناس أمة واحدة} قال: على الإسلام كلهم.
وأخرج البزار، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم عنه قال: كان بين آدم، ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين. قال: وكذلك في قراءة عبد الله {كَانَ الناس أُمَّةً واحدة فاختلفوا}.
وأخرج ابن جرير، وابن أبَي حاتم، عن أبيّ بن كعب؛ قال: كانوا أمة واحدة حيث عرضوا على آدم، ففطرهم الله على الإسلام، وأقرّوا له بالعبودية، وكانوا أمة واحدة مسلمين، ثم اختلفوا من بعد آدم.
وأخرج وكيع، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد: كان الناس أمة واحدة قال: آدم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبيّ أنه كان يقرؤها: {كَانَ الناس أُمَّةً واحدة فاختلفوا فَبَعَثَ الله النبيين} وإن الله إنما بعث الرسل، وأنزل الكتب بعد الاختلاف، {وما اختلف الذين أوتوه} يعني بني إسرائيل أوتوا الكتاب، والعلم {بغياً بينهم} يقول: بغياً على الدنيا، وطلب ملكها، وزخرفها أيهم يكون له الملك، والمهابة في الناس.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس: {كَانَ الناس أُمَّةً واحدة} قال: كفاراً.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي هريرة في قوله: {فَهَدَى الله الذين ءامَنُواْ} قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون الأوّلون يوم القيامة، وأوّل الناس دخولاً يبدأ بهم، أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، فغداً لليهود، وبعد غد للنصارى» وهو في الصحيح بدون ذكر الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن زيد بن أسلم في قوله: {فَهَدَى الله الذين ءامَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بإذنه} قال: اختلفوا في يوم الجمعة، فأخذ اليهود يوم السبت، والنصارى يوم الأحد، فهدى الله أمة محمد ليوم الجمعة، واختلفوا في القبلة، فاستقبلت النصارى المشرق، واليهود بيت المقدس، وهدى أمة محمد للقبلة، واختلفوا في الصلاة، فمنهم من يركع، ولا يسجد، ومنهم من يسجد ولا يركع، ومنهم من يصلي وهو يتكلم، ومنهم من يصلي وهو يمشي، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك، واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم النهار، ومنهم من يصوم من بعد الطعام، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك، واختلفوا في إبراهيم، فقالت: اليهود كان يهودياً، وقالت النصارى كان نصرانياً، وجعله الله حنيفاً مسلماً، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك، واختلفوا في عيسى، فكذبت به اليهود، وقالوا لأمه بهتاناً عظيماً، وجعلته النصارى إلهاً وولداً، وجعله الله روحه وكلمته، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك.